شعار الموقع لنسخة الدارك مود

شعار الموقع لنسخة الدارك مود

العقل المستنير واثق في الخالق

 





الثقة المتينة: رحلة العقل إلى الروح

مقدمة: أزمة الثقة كجوهر للمعضلة الوجودية

في صميم القلق الإنساني، تكمن معضلة وجودية عميقة تتجلى في غياب الثقة. إنها ليست مجرد قضية نفسية عابرة، بل هي أزمة تمنع الكائن البشري من تحقيق سكينته الداخلية. فالثقة بالله ليست واجباً دينياً يُفرض من الخارج، بل هي ضرورة عقلانية ووجودية لتهدئة النفس الحيوانية فينا، والتي لا يمكن أن تهدأ إلا بوثاق شديد يربطها بمصدرها الأعلى. إن ما يُعرف اليوم بـ "أزمات الثقة" (Trust Issues) هو بالضبط الحجاب الذي يمنع الفرد من فهم الله أو الوصول إلى حالة السلام الداخلي، إذ كيف يمكن للكائن أن يضع نهاية لصراع عواطفه وغرائزه المتناقضة إن لم يثق في الحبل المتين الذي يربطه بالوجود؟ تستكشف هذه المقالة مفهوم "الصمد" ليس كاسمٍ إلهي فحسب، بل كحالة من اليقين والهدوء المطلق التي يبلغها العقل عندما يسلّم أمره بالكامل للمدبر الأعلى، مدركاً أن الثقة هي المسار الوحيد نحو المعنى والشفاء.

--------------------------------------------------------------------------------

1. حين يستنير العقل بالأوامر الروحية

 يمثل مرتبة روحية وعقلية يصل إليها الإنسان عبر بوابة الثقة الكاملة. في هذه المرتبة، يستنير العقل بالأوامر الروحية، وتتحول رؤية الإنسان للكون تحولاً جذرياً، حيث يبدأ في رؤية "المعنى في كل انطباع" تركه الطابع الإلهي في صفحة الطبيعة. يصبح الله هو "الانطباع الأولي والنهائي" في كل ما هو مطبوع في هذا الوجود، من حركة الذرات إلى دورات الأفلاك.

تُعرَّف الثقة في أبسط صورها بأنها "ألا تترك مجالاً للفجوة بينك وبين الطرف الآخر". هذه الفجوة مع الله لا تُخلَق إلا بالشكوك: الشك في علمه المحيط، أو إدراكه لدقائق الأمور، أو قدرته على تدبير ما هو خير لنا. عندما تتسرب إلى العقل أفكار مثل: "ربما لا يعلم الله أهمية ما يحصل لي" أو "ربما ليس مدركاً لحجم ضعفي"، تتسع هذه الفجوة حتى يصبح الإنسان عاجزاً عن الثقة في خالقه. والمفارقة المدمرة تكمن هنا: إن عدم الثقة في الخالق، مصدر الجود والكرم، يؤدي حتماً إلى عدم القدرة على الثقة في أي مخلوق، بما في ذلك الذات. فإذا كان الذي خلقني لا أثق به، فكيف أثق بنفسي أو بمن هو مثلي في الضعف والقصور؟ والمفارقة الأخرى أن الطريق إلى هذا التسليم الروحي لا يمر عبر إلغاء العقل، بل عبر تفعيله إلى أقصى حدوده.

2. العقلانية القصوى: إدراك العجز كأعلى درجات العقل

في تصور شائع، يُربط العقل بالشك والتمرد، لكن المنظور الروحي يقلب هذه المعادلة، مقدماً العقل كأداة للوصول إلى اليقين المطلق من خلال إدراك حدوده. إن أعقل ما يمكن أن يصدر عن كائن عاقل هو أن يعترف بعجزه، فكما ورد في النص: "اعقل شيء ممكن ان يصدر عن اي كائن هو اعتراف عقلك بعجزك". هذا الاعتراف ليس هزيمة أو استسلاماً سلبياً، بل هو قمة النضج العقلي الذي يفتح الباب أمام الثقة بالله كـ "أحسن مدبر".

إن المبدأ القائل بأن "العقل مناط التكليف" يضع على الإنسان مسؤولية عقلية أولى، ليست التدبير والتحكم، بل الشهادة والمشاهدة. فالعاقل حقاً هو من يدرك أنه ليس الخالق ولا العالم ولا المدبر، فيترك الخلق للخالق، والعلم للعالم، والتدبير للمدبر. هذا الموقف يمثل "منتهى كبير من الشفافية بيني وبين الله"، حيث يتوقف الإنسان عن محاولة الدخول بين الله وأسمائه، أو بين القدر وفعله. إنه إدراك بأن كل شيء محسوب ومقدر بدقة، وأن أي محاولة للتدخل البشري ليست فعلاً حقيقياً، بل هي عبث لا طائل منه. فكما يصفها المصدر بقسوة لاذعة: "ما أنتم بفاعلين، إنما أنتم تشوشون على الذباب وتتصارعون معه". وهذا الإدراك العقلي يعيد تعريف دور الإنسان في الوجود، من فاعل مزعوم إلى شاهد مكرَّم.

3. الإنسان كشاهد: من عبث التدبير إلى شرف المشاهدة

عندما ينتقل الإنسان من محاولة التحكم في مصيره إلى إدراك أن دوره الحقيقي هو "الشهادة"، تحدث ثورة جذرية في هويته. يكتشف أن وجوده في هذا الكون ليس حقاً مكتسباً، بل هو امتياز لم يدفع ثمنه ومنحة مجانية بالكامل. لقد أسبغ عليه الخالق نعمة الوجود كرماً زائداً من فضله، دون طلب أو استحقاق. وكما جاء في النص: "انا المسرح هذا دخلته مجانا... ما دفعت ثمن". هذا المنظور يلغي أي شعور بالاستحقاق الزائف، ويؤسس لعلاقة مع الخالق قائمة على الأدب والامتنان. والأعمق من ذلك، أن الإنسان يدرك أنه في حالة ربح دائم "في الفايدة"، فوجوده نفسه هو فائض وربح صافٍ على العدم الذي كان فيه.

هنا يطرح النص مقارنة قوية بين "الضيف" و"الطفيليات"؛ فالإنسان الذي يحاول أن يصبح "مول الدار" ويتصرف كأنه مالك الكون هو كائن طفيلي، يدخل إلى جسد مضيفه ثم يدّعي الربوبية عليه. أما الإنسان الذي يدرك أنه مجرد "ضيف" في ملكوت الله، دخل إليه بفضل محض، ويعيش في ربح صافٍ، فإنه يعيش بأدب الضيف، لا يطلب ولا يفرض، بل يشكر على كرم الضيافة. لقد خلقنا الله "لكي نشهد بالحق"، وهذه الشهادة هي أسمى تكليف يمكن أن يُناط بالعاقل. إنها دعوة لنشهد على عظمة الخلق ودقة التدبير وعدل الحكم، وهو شرف لا يدركه إلا من وثق في صاحب الدار. ومن رحم هذه الشهادة الصادقة، لا يولد الخوف، بل يولد أسمى أنواع الحب.

4. الحب كثمرة للثقة: حين يصبح الله هو المحبوب الأسمى

يطرح النص علاقة سببية عميقة بين الثقة والحب، فالثقة الحقيقية لا يمكن أن تنبع إلا من محبة عميقة، والمحبة لا تكتمل إلا بثقة مطلقة. المقولة المحورية هنا هي: "الثقة من بواعث الحب. انا لا استطيع ان اثق في شيء لا احبه". بناءً على ذلك، فإن الثقة بالله ليست مجرد قناعة عقلية باردة، بل هي بالضرورة تعبير عن حب متجذر لله. ومن لا يثق بالله، فهو في الحقيقة يكرهه أو لا يعرفه حق المعرفة.

إن الإنسان الذي لا يثق بأن رسائل محبته تصل إلى الله وتعود إليه، هو شخص يعيش و"خيط الحب مقطوع" بينه وبين مصدر الوجود. أما من يدرك الحقيقة، فيعلم أن الله هو "المحبوب الأسمى". فإذا كان كل ما تهواه النفس وتطلبه الروح في هذه الدنيا هو في الأصل "بيده"، فإن التوجه إليه مباشرة لا يعود خياراً، بل يصبح ضرورة عقلية وحتمية روحية. إنه المحبوب الذي لا يمكن للعاقل إلا أن يقصده مباشرة، فهذا هو الاستنتاج النهائي الذي تفرضه كل الرغبات. وهذه العلاقة الفريدة تعيد تشكيل الفرد من الداخل، محولة الفوضى إلى نظام، والتمرد إلى سلام.

5. من الفوضى إلى الانضباط: الخضوع للضبط العلوي

يصف المتحدث نفسه ككائن "فوضوي" بطبعه، مثل "الزيت" الذي لا يمكن لأي نظام أرضي أن يحكمه أو يقبض عليه. إن حالة الانضباط التي يعيشها الآن ليست نابعة من ذاته، بل هي دليل قاطع على وجود قوة عليا ضابطة. هذه التجربة الشخصية تتحول إلى برهان وجودي من خلال تشبيهات قوية: "انا وحش تحول الى انسان"، و "انا زيت... اذا لقيتوني محكوم اعرفوا باللي او الحكيم اللي حكمني".

المبدأ الأساسي هنا هو: "ان ضبطت فهو الضبط العلوي". أي مظهر من مظاهر الإيمان، أو الركوع، أو الثبات في حياة فرد فوضوي بطبعه، هو انعكاس مباشر لتدخل "القلم العلوي" وإرادة "الخياط". ولتقديم البرهان المطلق على هذه الحقيقة، يكشف المتحدث عن نفسه في اعتراف صادم يهدم كل ادعاء ذاتي:

"ان وجدتني في صحيفة من المؤمنين فاعلم ان الصحيفة علوية"

هذا الإقرار بأن أي صلاح فينا هو من الله وليس منا، هو قمة العبودية وأساس الثقة المطلقة. فبقاء الإنسان على طريق الحق ليس من ذاته، بل هو بفضل اتصاله بخيط من "حرير النور" الذي لولاه لابتلعه الظلام. وهذا التسليم للضبط العلوي ليس نهاية، بل هو بداية الطريق إلى الشفاء المتكامل الذي يبدأ من العقل وينتهي بالجسد.

--------------------------------------------------------------------------------

خاتمة: دائرة الشفاء في رحاب الصمدية

في نهاية المطاف، تتجلى رحلة الثقة في دائرة متكاملة من الشفاء، تبدأ من الأعلى وتنزل إلى الأسفل، من الفكرة إلى الجسد. يلخص النص هذا التسلسل الهرمي للشفاء كالتالي:

  • دواء العقل: أمر سليم من المولى.
  • دواء القلب: عقل سليم.
  • دواء النفس: قلب سليم.
  • دواء البدن: نفس سليمة.

إن أساس هذه الدائرة كلها هو "الأمر السليم" الذي يتلقاه العقل. وهذا الأمر ليس مجرد اختيار فكري، بل هو في جوهره أمر إلهي، وتكليف علوي يُلقى في عقل العبد. إن "أن يكون لك معتقد سليم عن الإلهي، هذا أمر إلهي". إنه التكليف الأول الذي يفتح باب الشفاء على مصراعيه. فالهدوء الحقيقي والشفاء الكامل يكمنان في التخلي عن أوهام السيطرة والتدبير، واعتناق حقيقة العبودية لله، والرضا بحكمه، والثقة المطلقة في تدبيره الذي لا يضل ولا يخطئ. وعندما يصل العقل إلى هذا المقام، مقام "الصمد"، يجد الإنسان نفسه في حصن منيع من السكينة واليقين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كاتب التدوينة
كاتب التدوينة
هذا النص هو مثال لنص يمكن أن يستبدل في نفس المساحة، لقد تم توليد هذا النص من مولد النص العربى، حيث يمكنك أن تولد مثل هذا النص أو العديد من النصوص الأخرى إضافة إلى زيادة عدد الحروف التى يولدها التطبيق.
G.M HERMES