فلسفة الابتلاء: من جوهر الفرد إلى مصير الأمم
1. مقدمة: إعادة تعريف الابتلاء كمسار للقرب الإلهي
"أشد الناس ابتلاءً أقربهم من الله تعالى." هذا مبدأ يهدم أركان الفهم السطحي السائد، ويعارض كل بنود ما يسمى بـ"الصحوة المعاصرة" التي تربط العطاء الإلهي بالرضا، والمنع بالغضب. إنها تقدم الابتلاء كمصيبة يجب رفضها، بينما الحقيقة الروحية العميقة تكشف عن منظور يقلب الموازين المادية رأساً على عقب؛ فالابتلاء في جوهره هو المقياس الأدق للقرب من الحضرة الإلهية. في هذا المقال، سنكشف عن الطبيعة الحقيقية للابتلاء، غائصين في ثنائيات المنع والعطاء، والظاهر والباطن، مبيّنين كيف أن إحسان التعامل مع البلاء بالصبر في الشدة والشكر في الرخاء هو جوهر الارتقاء الروحي، وكيف يمتد هذا القانون الإلهي من حياة الفرد ليشمل مصير الأمم في الصراع الأزلي بين الحق والباطل.
2. حقيقة الابتلاء: ما وراء المنع والعطاء
إن فهم حقيقة الابتلاء هو خطوة تحريرية تطلق الإنسان من سجن المظاهر، ومن ربط قيمته عند الله بما يُعطى أو يُمنع في عالم الشهادة. فالابتلاء ليس شراً محضاً، بل هو "شيء يصيبك... حسن أو سيء". إنه كل ما يطرأ على حياة الإنسان، من عطاء ومنع، ومن وصل وترك. يبتليك الله باستقبال شيء كما يبتليك بفقدانه، والحقيقة الصادمة هي أنه لا يمكن لإنسان أن يجزم أيهما كان خيراً له. فلا أحد يعلم حقاً أي البلاءين كان أحسن له: هل كان سيُحسن البلاء في العطاء أم في المنع؟
هذا الفهم يؤسس لعلاقة جوهرية مفادها أن شدة الابتلاء تتناسب طرداً مع القرب من الله، فـ "أشد الناس ابتلاء أقربهم من الله تعالى". هذا المبدأ يهدم الفهم السائد الذي يربط النعم المادية برضا الله.
المفهوم السائد (الصحوة المعاصرة) | الحقيقة الروحية (جوهر النص) |
العطاء دليل القرب والمنع دليل البعد. | لا علاقة للعطاء أو المنع بالقرب من الله. |
رفض الابتلاء والسعي وراء النعم الشكلية. | الابتلاء فرصة للقرب، سواء في الشدة أو الرخاء. |
التركيز على النعم الظاهرة كدليل على محبة الله. | التركيز على كيفية الاستجابة للبلاء (إحسان البلاء). |
إن عطاء الله غير محدود ويشمل كل خلقه، فقد يعطي البعيد عنه ظاهرياً، وقد يمنع القريب منه وما منعه إلا ليحميه مما قد يبعده عنه. فسمة القرب من الله ليست مرتبطة بالعطاء المادي، بل هي حالة باطنية محضة. وإدراك هذه الحقيقة يقودنا حتماً إلى ضرورة التمييز بين قشور الوجود الظاهرة وجوهره الباطن.
3. ثنائية الوجود: بين القشور الظاهرة والجوهر الباطن
يعد التمييز بين الظاهر والباطن أداة للتبصر الروحي، والخلط بينهما يؤدي إلى سوء فهم كارثي لإرادة الله. والقاعدة هنا صارمة: "العطاء عام أما الاقتراب خاص". فالله قد يعطي مظاهر النعم وشكلها لكل الناس، لمن يحب ولمن لا يحب، لكن القرب منه هو سر لا يناله إلا أهل البلاء. والسبب في ذلك عميق وجليل، فإن خصوصية الله وحُرمته لا تسمح بأن يدخل إلى قدسها من ليس مُبتلى.
لذلك، قد ترى شخصاً أُعطي كل شيء في الظاهر، من ثروة وسلطان ونعم لا تحصى، فتظن أنه ذو حظوة عند الله، بينما قد يكون في حقيقته أبعد مخلوق عنه. وفي المقابل، قد يمنع الله عبداً في الظاهر، ليمنحه "جوهر النعم" الباقي في الباطن.
- شكل النعمة: عرضي، فانٍ، كجسد يموت، وثروة تفنى، وعلاقات تنقطع. يُعطى هذا الشكل لمن يحب الله ومن لا يحب.
- جوهر النعمة: باقٍ، سرمدي، كروح لا تفنى. هو أمر خاص لا يُعطى إلا لمن يحبهم الله، كالصبر الثابت في قلب المحنة، والشكر الدائم في ذروة النعمة، واليقين والسعادة الداخلية التي لا تتأثر بالظروف الخارجية.
لذلك، يأتي التحذير مدوياً: "لا تعظموا شان القشور فتطغى عليك فيعظم امرها في قلبك". فإن تعظيم شأن المظاهر يجعلها تتحكم في الإنسان وتأسره، بينما القوة الحقيقية تكمن في الجوهر الذي لا يفنى. وإدراك هذه الثنائية يطرح السؤال العملي الأهم: كيف تكون الاستجابة الصحيحة للبلاء إذن؟
4. مسار الروح: الصبر والشكر كأرقى درجات الاستجابة
لا تكتمل معرفة حقيقة الابتلاء دون إتقان فن "إحسان البلاء"، الذي يمثل جوهر العبادة العملية. فكل ما يصيب الإنسان هو فرصة للصعود أو للنزول؛ الابتلاء بمثابة مصعد روحي، والاستجابة الصحيحة هي التي تحدد الاتجاه.
- الصبر في الشدة: ليس الصبر كسلاً أو استسلاماً سلبياً، بل هو في حقيقته "استنفاذ الفرصة والجاهزية". إنه حالة من الاستعداد التام والعمل بكل الأسباب المتاحة، ثم انتظار أمر الله بثقة ويقين. إن من يعرف الله في شدته، يعرفه حقاً وبلا حجاب. إنها معرفة الحق بالحق.
- الشكر في الرخاء: الشكر هو حصن النعم المنيع. فالقاعدة واضحة: "انعدام الشكر سبب البلاء". الإنسان الذي لا يشكر وهو في رخاء يفتح على نفسه أبواب الشدة بنفسه. أما من يعرف الله في الرخاء دون شكر، فإنه يعرفه شكلاً ورسماً فقط، فكثرة النعم قد تغطي على المنعم.
من هنا، تتشكل المعادلة الروحية النهائية التي تمثل ذروة الحكمة في التعامل مع أقدار الله:
أحسن بلاء في الشدة هو الصبر، وأحسن بلاء في الرخاء هو الشكر.
الهدف إذن ليس تجنب الابتلاء، بل إحسان التعامل معه. وهذا القانون الروحي الذي يحكم الفرد هو ذاته الذي سيحكم مصير الأمم في الصراع الكوني بين قوى الحق والباطل، خاصة في نهاية الزمان.
5. نهاية الزمان: تجلي الصراع بين الحق والباطل
يتسع مفهوم الابتلاء من النطاق الفردي ليشمل الصراع الكوني. ففي نهاية الزمان، تتجلى سنة إلهية حيث يجمع الله أهل الباطل في مكان واحد، ليكون شرهم بينهم، وليتضح إجرامهم للمسالمين فيتوحدون ضدهم. تصل قوى الشر، بسبب غرورها، إلى درجة من الجرأة تجعلها تجهر بفسادها وتعلن الحرب على "السلام"، وهو اسم من أسماء الله الحسنى.
"بمجرد اعلانهم الحرب على السلام... اعلموا ان الامر وقع".
هذا الإعلان هو بداية النهاية الحتمية. فالقوة الظاهرة لهذه الأنظمة، سواء كانت مالية أو عسكرية، هي في حقيقتها هشة للغاية، لأنها قائمة على مشروع شيطاني لا أحد مستعد حقاً للتضحية من أجله. وبمجرد أول تهديد حقيقي، يهرب الجميع ويتفكك الجمع، وينهار هذا الصرح الذي بدا عظيماً "بأسخف ما يكون، كجدار رثٍّ"، وتكون حربهم "أسخف حرب في العالم".
يمكن تلخيص مراحل هذا التجلي الكوني على النحو التالي:
- مرحلة النفاق: تحكم قوى الشر تحت ستار الدفاع عن السلام وحقوق الإنسان، مستخدمة الخداع لتمرير أجندتها.
- مرحلة الغرور والجهر: تصل هذه القوى إلى قناعة بأنها لا تُغلب، فتتخلى عن قناع النفاق وتجهر بفسادها وعدائها الصريح للحق.
- مرحلة التجميع الإلهي: يتم جذب كل أهل الشر وأتباعهم إلى مكان واحد، مما يفصلهم تماماً عن أهل الحق.
- مرحلة الانهيار السخيف: تنهار هذه القوة التي بدت عظيمة لأنها لم تجتمع إلا على باطل، وتتفكك عند أول اختبار حقيقي.
6. خاتمة: اليقين في جوهر الحق
إن رحلة فهم الابتلاء تبدأ من إعادة تعريف علاقة الفرد بربه، لتنتهي بفهم السنن الكونية التي تحكم مصير الأمم. والرسالة المحورية واضحة: القوة الحقيقية ليست في المظاهر الزائلة، بل في الجوهر الباقي. إنها تكمن في الصبر عند الشدة، والشكر عند الرخاء، وفي الثبات على الحق مهما كانت موازين القوى الظاهرية.
فلا ينبغي الاغترار بما يُعطى أهل الباطل من قوة شكلية، ولا الحزن بما يُمنع أهل الحق من نعم ظاهرية. فالأمر كله بيد مدبر حكيم، ونهايته حتمية بانتصار الحق وزهوق الباطل. وكما يلخص الوحي هذه العقيدة الراسخة: "فلا تهنوا ولا تحزنوا انتم الاعلون ان كنتم مؤمنين".
.png)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق